فصل: تفسير الآيات (27- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (27- 28):

{وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)}
{وَقَالَ مُوسَى} أي لقومِه حينَ سمعَ بمَا تقوَّلَهُ اللعينُ من حديثِ قتلِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ {إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب} صدَّرَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كلامَهُ بإنَّ تأكيداً له وإظهاراً لمزيدِ الاعتناءِ بمضمونِه وفرطِ الرغبةِ فيهِ، وخصَّ اسمَ الربِّ المنبىءِ عن الحفظِ والتربيةِ لأنَّهما الذي يستدعيِه وأضافَهُ إليهِ وإليهم حثَّاً لهم على موافقتِه في العياذِ بهِ تعالى والتوكلِ عليه فإنَّ في تظاهرِ النفوسِ تأثيراً قوياً في استجلابِ الإجابةِ ولم يسمِّ فرعونَ بل ذكرَهُ بوصفٍ يعمُّه وغيرَهُ منَ الجبابرةِ لتعميمِ الاستعاذةِ والإشعارِ بعلةِ القساوةِ والجرأةِ على الله تعالَى. وقرئ: {عُتُّ} بالإدغامِ.
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ} قيلَ كانَ قبطياً ابْنَ عمَ لفرعونَ آمنَ بُموس سِرَّاً، وقيلَ: كانَ إسرائيلياً، أو غَريباً مُوحداً {يَكْتُمُ إيمانه} أيْ مِنْ فرعونَ وملئِه {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً} أتقصِدونَ قتلَهُ. {أَن يَقُولَ} لأنْ يقولَ، أو كراهةَ أنْ يقولَ {رَبّىَ الله} أيْ وحدَهُ من غيرِ رويةٍ وتأملٍ في أمرِه {وَقَدْ جَاءكُمْ بالبينات} والحالُ أنَّه قد جاءكُم بالمعجزاتِ الظاهرةِ التي شاهدتمُوها وعهدتمُوها {مّن رَّبّكُمْ} أضافَهُ إليهم بعدَ ذكرِ البيناتِ احتجاجاً عليهم واستنزالاً لَهمُ عن رُتبةِ المكابرةِ ثم أخذَهُم بالاحتجاجِ من بابِ الاحتياطِ، فقال: {وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} لا يتخطَّاهُ وبالُ كذبِه فيُحتاجَ في دفعه إلى قتلِه {وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ} أيْ إنْ لَم يُصبكم كلُّه فلاَ أقلَّ منْ إصابةِ بعضِه لاسيما إنْ تعرضتُم له بسوءٍ، وهَذا كلامٌ صادرٌ عن غايةِ الإنصافِ وعدمِ التعصبِ ولذلكَ قدَّمَ من شِقَّيْ الترديدِ كونَهُ كاذباً أو يُصبْكُم ما يعدُكُم من عذابِ الدُّنيا وهو بعضُ ما يعدُهم كأنَّه خوَّفُهم بما هو أظهرُ احتمالاً عندَهُم، وتفسيرُ البعضِ بالكُلِّ مستدَلاً بقولِ لَبيدٍ:
ترَّاكُ أمكنةٍ إذَا لَمْ أَرْضَها ** أو يرتبطْ بعضَ النفوسِ حِمامُها

مردودٌ لمَا أنَّ مرادَهُ بالبعضِ نَفْسُه {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}. احتجاجٌ آخرُ ذُو وجهينِ أحدُهما أنَّه لوْ كانَ مُسرفاً كذاباً لما هداهُ الله تعالَى إلى البيناتِ ولمَا أيَّدهُ بتلكَ المعجزاتِ وثانيهما إنْ كان كذلك خذلَه الله وأهلكَهُ فَلا حاجةَ لكُم إلى قتلِه ولعلَّه أراهُم المعنى الثَّانِي وهُو عاكفٌ على المَعْنى الأول لتلينَ شكيمتُهم وقد عَرَّضَ به لفرعونَ بأنَّه مسرفٌ كذَّابٌ لا يهديِه الله سبيلَ الصوابِ ومنهاجَ النجاةِ.

.تفسير الآيات (29- 33):

{يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)}
{ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين} غالبينَ عالينَ عَلى بني إسرائيلَ {فِى الأرض} أي أرضِ مصرَ لا يُقاومكُم أحدٌ في هذا الوقتِ {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله} من أخذِه وعذابِه. {إِن جَاءنَا} أي فَلاَ تُفسدُوا أمرَكُم ولا تتعرضُوا لبأسِ الله بقتلِه فإنَّه إنْ جاءَنا لم يمنعنا منه أحدٌ وإنَّما نسبَ ما يسرُّهم من المُلكِ والظهورِ في الأرضِ إليهم خَاصَّة ونظمَ نفسَهُ في سلكِهم فيما يسوؤُهم من مجىء بأسِ الله تعالى تطييباً لقلوبِهم وإيذاناً بأنَّه ناصحٌ لهم ساعٍ في تحصيلِ ما يُجديهم ودفعِ ما يُرديهم سعيَهُ في حقِّ نفسِه ليُتأثرَ بنصحِه.
{قَالَ فِرْعَوْنُ} بعد ما سَمِع نُصحَهُ {مَا أُرِيكُمْ} أيْ ما أُشيرُ عليكُم {إِلاَّ مَا أرى} وأستصوبُهُ مِنْ قتلِه {وَمَا أَهْدِيكُمْ} بهذَا الرَّأي {إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} أي الصوابِ، أو لا أُعلِّمُكم إلاَّ ما أعلمُ ولا أُسرُّ عنكُم خلافَ ما أُظهرُهُ، ولقدْ كذبَ حيثُ كانَ مستشعراً للخوفِ الشديدِ ولكنَّه كان يتجلدُ ولولاهُ لما استشارَ أحداً أبداً. وقرئ بتشديدِ الشِّينِ للمبالغةِ من رشُد كعلاّم أو من رشَد كعبّاد لا من أرشد كجبار من أجبر لأنه مقصورٌ على السماع أو للنسبة إلى الرُّشْد كعوّاج وبتَّات غيرَ منظور فيه إلى فَعْل.
{وَقَالَ الذي ءامَنَ} مخاطباً لقومِه: {ياقوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} في تكذيبِه والتعرضِ بالسوءِ {مّثْلَ يَوْمِ الأحزاب} مثلَ أيامِ الأممِ الماضيةِ يعني وقائِعَهُم، وجمعُ الأحزابِ مع التفسيرِ أغنى عَن جمعِ اليومِ {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} أيْ مثلَ جزاءِ ما كانوا عليهِ من الكفرِ وإيذاءِ الرُّسلِ. {والذين مِن بَعْدِهِمْ} كقومِ لوطٍ {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ} فَلا يُعاقبُهم بغيرِ ذنبٍ ولا يُخلّي الظالَم منُهم بغيرِ انتقامِ وهُو أبلغُ من قولِه تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} لما أنَّ المنفيّ فيهِ إرادةُ ظلمٍ مَا فينتِفي الظلمُ بطريقِ الأولويةِ {وياقوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد} خوَّفهم بالعذابِ الأُخروي بعدَ تخويفِهم بالعذابِ الدنيويِّ ويومُ التنادِ يومُ القيامةِ لأنَّه يُنادِي فيهِ بعضُهم للاستغاثةِ أو يتصايحونَ بالويلِ والثبورِ أو يتنادَى أصحابُ الجنةِ وأصحابُ النارِ حسبَما حُكِيَ في سورةِ الأعرافِ. وقرئ بتشديدِ الدَّالِ وهُو أنْ ينِدَّ بعضُهم من بعضٍ كقولِه تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ} وعنِ الضحَّاكِ إذا سمعُوا زفيرَ النارِ ندُّوا هَرَباً فلا يأتونَ قُطراً من الأقطارِ إلاَّ وجدُوا ملائكةً صفوفاً فبينَا هُم يموجُ بعضهم في بعضِ إذْ سمعُوا مُنادياً أقِبلوا إلى الحسابِ {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} بدلٌ من يومَ التنادِ أي منصرفينَ عن الموقفِ إلى النارِ أو فارينَ منها حسبَما نُقلَ آنِفاً {مَا لَكُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} يعصمُكم من عذابِه. والجملةُ حالٌ أُخْرَى من ضميرِ تُولُّون. {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يهديِه إلى طريقِ النجاةِ.

.تفسير الآيات (34- 37):

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)}
{وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ} هو يوسفُ بنُ يعقوبَ عليهما السَّلامُ على أنَّ فرعونَهُ فرعونُ موسى أو على نسبةِ أحوالِ الآباءِ إلى الأولادِ، وقيلَ سِبْطُه يوسفُ بنُ إبراهيمَ بنِ يوسفَ الصدِّيقِ. {مِن قَبْلُ} من قبلِ موُسى {بالبينات} بالمعجزاتِ الواضحةِ {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكّ مّمَّا جَاءكُمْ بِهِ} من الدينِ {حتى إِذَا هَلَكَ} بالموتِ {قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً} ضمَّاً إلى تكذيبِ رسالتِه تكذيبَ رسالةِ مَنْ بعدَهُ أو جزماً بأنْ لا يُبعثَ بعدَهُ رسولٌ معَ الشكِّ في رسالتِه. وقرئ: {ألنْ يبعثَ الله} على أنَّ بعضَهُم يقررُ بعضاً بنفي البعثِ {كذلك} أي مثل ذلكَ الإضلالِ الفظيعِ {يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} في عصيانِه {مُّرْتَابٌ} في دينِه شاكٌّ فيما تشهدُ به البيناتُ لغلبةِ الوهمِ والانهماكِ في التقليدِ.
{الذين يجادلون فِي ءايات الله} بدلٌ من الموصولِ الأولِ أو بيانٌ له أو صفةٌ باعتبارٍ معناهُ كأنَّه قيلَ كلُّ مسرفٍ مرتابٍ أو المسرفينَ المرتابينَ {بِغَيْرِ سلطان} متعلقٌ بيجادلونَ أي بغيرِ حُجَّةٍ صالحةٍ للتمسكِ بها في الجُملةِ {ءاتاهم} صفةُ سلطانِ {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين ءامَنُواْ} فيه ضربٌ من التعجبِ والاستعظامِ وفي كبُر ضميرٌ يعودُ إلى مَنْ وتذكيرُه باعتبارِ اللفظِ وقيلَ إلى الجدالِ المستفادِ من يُجادلونَ {كذلك} أي مثل ذلكَ الطبعِ الفظيعِ {يَطْبَعُ الله على كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ} فيصدرُ عنه أمثالُ ما ذُكَر من الإسرافِ والارتيابِ والمجادلةِ بالباطلِ. وقرئ بتنوينِ قلبِ، ووصفُه بالتكبرِ والتجبرِ لأنَّه منبعُهما {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياهامان ابن لِى صَرْحاً} أي بناءً مكشُوفاً عالياً من صرُحَ الشيءُ إذَا ظهرَ {لَّعَلّى أَبْلُغُ الأسباب} أي الطرقَ {أسباب السموات} بيانٌ لها وفي إبهامِها ثمَّ إيضاحِها تفخيمٌ لشأنِها وتشويقٌ للسامعِ إلى معرفتِها {فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى} بالنصبِ على جوابِ الترجِّي. وقرئ بالرفعِ عطفاً على أبلغُ، ولعلَّه أرادَ أنْ يبنيَ له رَصَداً في موضعٍ عالٍ ليرصُدَ منْهُ أحوالَ الكواكبِ التي هي أسبابٌ سماويةٌ تدلُّ على الحوادثِ الأرضيةِ فيرى هَلْ فيها ما يدلُّ على إرسالِ الله تعالَى إيَّاهُ أو أنْ يَرَى فسادَ قولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنَّ إخبارَهُ من إلِه السماءِ يتوقفُ على اطِّلاعِه عليهِ ووصولِه إليهِ وذلكَ لا يتأتَّى إلا بالصُّعودِ إلى السماءِ وهُو ممَّا لا يقْوَى عليهِ الإنسانُ وما ذاكَ إلا لجهلِه بالله سبحانَهُ وكيفيِة استنبائِه {وَإِنّى لاَظُنُّهُ كاذبا} فيَما يدعيهِ من الرسالةِ {وكذلك} أيْ ومثلَ ذلكَ التزيينِ البليغِ المُفْرطِ {زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوء عَمَلِهِ} فانهمكَ فيهِ انهماكاً لا يرْعَوِي عنه بحال {وَصُدَّ عَنِ السبيل} أي الرشادِ. والفاعلُ في الحقيقةِ هُو الله تعالَى، ويؤيدُه قراءةُ زَيَّنَ بالفتحِ وبالتوسطِ الشيطانُ. وقرئ: {وصَدَّ} على أنَّ فرعونَ صدَّ الناسَ عنِ الهُدى بأمثالِ هذهِ التمويهاتِ والشبهاتِ. ويُؤيدُه قولُه تعالى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} أي خسَارٍ وهلاكِ أو على أنَّه من صَدَّ صُدوداً أي أعرضَ. وقرئ بكسرِ الصَّادِ على نقلِ حركةِ الدَّالِ إليهِ. وقرئ: {وصَدٌّ} على أنَّه عطفٌ على سوءُ عملِه وقرئ: {وصَدُّوا} أيْ هُو وقومُهُ.

.تفسير الآيات (38- 42):

{وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)}
{وَقَالَ الذي ءامَنَ} أي مؤمنُ آلِ فرعونَ، وقيلَ مُوسَى عليهِ السَّلامُ. {ءامَنَ ياقوم اتبعون} فيما دَللْتكُم عليهِ {أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد} أيْ سبيلاً يصلُ سالكُه إلى المقصودِ وفيه تعريضٌ بأنَّ ما يسلُكُه فرعونُ وقومُه سبيلُ الغيِّ والضلالِ. {ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا متاع} أي تمتعٌ يسيرٌ لسرعةِ زوالِها أجملَ لَهمُ أولاً ثمَّ فسرَ فافتتحَ بذمِّ الدُّنيا وتصغيرِ شأنِها لأنَّ الإخلادَ إليها رأسُ كلِّ شرَ ومنه تتشعبُ فنونُ ما يُؤدِّي إلى سخطِ الله تعالَى ثمَّ ثنَّى بتعظيمِ الآخرةِ فقالَ: {وَإِنَّ الأخرة هي دَارُ القرار} لخلودِها ودوامِ ما فيها. {مِنْ عَمَلٍ} في الدُّنيا {سَيّئَةً فَلاَ يجزى} في الآخرةِ {إِلاَّ مِثْلَهَا} عدلاً من الله سبحانَهُ وفيه دليلٌ على أنَّ الجناياتِ تُغْرمُ بأمثالِها {وَمَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ} الذينَ عملِوا ذلَك {يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أيْ بغيرِ تقديرٍ وموازنةٍ بالعملِ بَلْ أضعافاً مُضاعفةً فضلاً من الله عزَّ وجلَّ ورحمةً. وجعلُ العملِ عمدةً والإيمانِ حالاً للإيذانِ بأنَّه لا عبرةَ بالعملِ بدونِه، وأنَّ ثوابَهُ أَعْلَى منْ ذلك {وياقوم مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وَتَدْعُونَنِى إِلَى النار} كررَ نداءَهم إيقاظاً لهم عن سنة الغفلة واعتناء بالمنادى له ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به نصحَهُ. ومدارُ التعجبِ الذي يلوحُ به الاستفهامُ دعوتُهم إيَّاهُ إلى النارِ ودعوته إياهم إلى النجاة كأنه قبل: أخبروني كيف هذه الحال أدعوكم إلى الخير وتدعونني إلى الشرِّ وقد جعلَه بعضُهم من قبيلِ ما لي أراكَ حزيناً أي ما لكَ تكونُ حزيناً. وقولُه تعالَى: {تَدْعُونَنِى لاَكْفُرَ بالله} بدلٌ أو بيانٌ فيه تعليلٌ والدعاءُ كالهدايةِ في التعديةِ بإلى واللامِ {وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ} بشركتِه له تعالى في المعبوديةِ وقيل بربوبيتِه {عِلْمٍ} والمرادُ نفيُ المعلومِ والإشعارُ بأنَّ الألوهيةَ لابد لها من بُرهانٍ موجبٍ للعلمِ بَها. {وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار} الجامعِ لجميعِ صفاتِ الألوهيةِ من كمالِ القُدرةِ والغَلبةِ وما يتوقفُ عليهِ من العلمِ والإرادةِ والتمكنِ من المجازاةِ والقدرةِ على التعذيبِ والغفرانِ.

.تفسير الآيات (43- 46):

{لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)}
{لاَ جَرَمَ} لا ردَّ لما دعَوهُ إليهِ وجرمَ فعلٌ ماضٍ بمعَنْى حَقَّ وفاعلُه قولُه تعالى: {إِنَّ مَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدنيا وَلاَ فِي الأخرة} أيْ حق ووجب عدم دعوة آلهتهم إلى عبادتها أصلاً أو عدم دعوة مستجابة أو عدم استجابةِ دعوةٍ لهَا وقيلَ جرمَ بمعنى كسبَ وفاعلُه مستكنٌّ فيهِ أي كسبَ ذلكَ الدعاءُ إليهِ بطلانَ دعوتِه بمعنى ما حصلَ من ذلكَ إلا ظهورُ بطلانِ دعوتِه وقيل: جرمَ فعلٌ من الجَرْمِ وهو القطعُ كما أن بُدّاً من لابد فُعْلٌ من التبديد أي التفريق والمعنى لا قطع لبطلان ألوهية الأصنام أي لا ينقطع في وقت ما فينقلب حقاً ويؤيده قولهم لا جُرْم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء وفُعْلٌ وفَعَلٌ أخوان كرُشْد ورَشَد {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى الله} أي بالموتِ عطفٌ على أنَّ ما تدعونِني داخلٌ في حُكمِه وكذا قولُه تعالى: {وَأَنَّ المسرفين} أي في الضلالِ والطغيانِ كالإشراكِ وسفكِ الدِّماءِ {هُمْ أصحاب النار} أي مُلازمُوهَا {فَسَتَذْكُرُونَ} وقرئ: {فَستدكَّرُونَ} أي فسيذكِّرُ بعضُكم بعضاً عند معاينةِ العذابِ {مَا أَقُولُ لَكُمْ} من النضائحِ {وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى الله} قالَه لما أنَّهم كانُوا توعَّدُوه {إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد} فيحرُسُ مَنْ يلوذُ به من المكارِه {فَوقَاهُ الله سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ} شدائدَ مكرِهم وما همّوا به من إلحاقِ أنواعِ العذابِ بمن خالفَهم قيلَ نَجا معَ مُوسى عليهِ السَّلامُ {وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ} أي بفرعونَ وقومِه، وعدمُ التصريحِ بهِ للاستغناءِ بذكرِهم عنْ ذكرِه ضرورةَ أنَّه أولى منُهم بذلكَ وقيل: بطَلَبةِ المؤمنِ منْ قومِه لما أنَّه فرَّ إلى جبلٍ فاتبعَهُ طائفةٌ ليأخذُوه فوجدُوه يُصلِّي والوحوسُ صفوفٌ حولَهُ فرجعُوا رُعْباً فقتلَهُم {سُوء العذاب} الغرقُ والقتلُ والنَّارُ.
{النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} جملةٌ مستأنفةٌ مَسْوقةٌ لبيانِ كيفيةِ سوءِ العذابِ، أو النَّارُ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، كأنَّ قَائِلاً قالَ ما سوءُ العذابِ فقيلَ هُو النَّارُ ويُعرضونَ استئنافٌ للبيانِ، أو بدلٌ من سوءِ العذابِ ويُعرضون حالٌ منَها أو من الآلِ ولا يشترطُ في الحَيْقِ أنْ يكونَ الحائقُ ذلكَ السوءَ بعينِه حَتَّى يردَ أنَّ آلَ فرعونَ لم يهمُّوا بتعذيبِه بالنَّارِ ليكونَ ابتلاؤهم بها من قبيلِ رجوعِ ما هَمُّوا بهِ عليهم بلْ يكِفي في ذلكَ أنْ يكونَ مما يطلقُ عليهِ اسمُ السوءِ. وقُرِئتْ منصوبةً على الاختصاصِ أو بإضمار فعلٍ يفسرُه يُعرَضونَ مثلُ يُصْلَون فإنَّ عرضَهُم على النَّارِ بإحراقِهم بها من قولِهم عُرضَ الأُسَارى على السيفِ إذا قُتِلُوا بهِ وذلكَ لأرواحِهم كما رَوَىَ ابنُ مسعودٍ رضَي الله عنْهُ أنَّ أرواحَهُم في أجوافٍ طيرٍ سُودٍ تُعرضُ على النَّارِ بُكرةً وعشياً إلى يومِ القيامةِ، وذكرُ الوقتينِ إمَّا للتخصيصِ وإمَّا فيما بينهُمَا فالله تعالَى أعلمُ بحالِهم وإمَّا للتأبيدِ هذا ما دامتِ الدُّنيا.
{وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} يقالُ للملائكةِ {أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} أي عذابَ جهنَم فإنَّه أشدُّ ممَّا كانُوا فيه، أو أشدّ عذابِ جهنَم، فإنَّ عذابَها ألوانٌ بعضُها أشدُّ من بعضٍ. وقرئ: {ادخُلُوا} من الدخولِ أي يُقالُ لهم ادخُلُوا يا آلَ فرعونَ أشدَّ العذابِ.